الارتقاء بقضاء الأحداث في العراق
يعتبر ارتفاع نسبة الأطفال والشباب من بين السكان مصدر فخر لدى الكثير من الشعوب والدول التي تطمح في أن تتبوأ مكاناً مرموقاً بين الأمم والشعوب، وأن تكون لها إسهامات ملموسة في الحضارة الإنسانية. فازدياد نسبة الأطفال والشباب مؤشر على مستقبل أفضل، لما تمثله هذه الفئة من مصدر هام على طريق النماء والتطور. وبالتالي ليس غريباً أن تسعى الكثير من الدول، إلى الاستثمار في هذه الفئة، وأن تعمل على إقرار الخطط الطموحة لضمان توفير السبل الكفيلة لنمو الأطفال في بيئة صحية سليمة، وبالتالي خلق مجتمع سليم ومعافى.
بقلم المحامي:
حسين شولي
خبير في اصلاح القضاء
ويشكّل الشباب والأطفال النسبة الأكبر من مجموع سكان العراق، حيث تزيد نسبتهم عن 40% من مجموع سكان العراق، وهو ما يؤكد حقيقة أنّ المجتمع العراقي مجتمع فتيّ وشاب وتنتظره فرص واعدة إن أُحسن الإعداد والتخطيط والتنفيذ.
ويبرز من بين الشباب، فئة الأحداث، وهم – سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً- من أتموا 8 سنوات ولم يتمّوا 18 سنة، وانحرفوا عن جادة الصواب، وارتكبوا جرائم. وهذا أمر طبيعي، وقد يحصل في مختلف الدول، ولكن طبيعة تعاطي المجتمع وأجهزة إنفاذ القانون معهم تختلف عن طريقة التعاطي مع غيرها من الفئات، وهو متفاوت من نظام اجتماعي إلى آخر، وطرأت عليه مؤخراً تغييرات جوهرية.
وانطلاقاً من هذا الفهم، حرصت الكثير من الدول على تبني تشريعات وسياسات خاصة في التعامل مع الأطفال والأحداث الجانحين (الأطفال مع نزاع مع القانون)، شملت إقرار إجراءات خاصة لتوعيتهم ووقايتهم ومنعهم من الجنوح وارتكاب المخالفات والجرائم، وفي حال جنحوا فإنّ هناك إجراءات خاصة في ملاحقة الأحداث، سواء في القبض أو في التوقيف أو في التحقيق أو في المحاكمة أو في الأحكام القضائية. والأهم تبني فلسفة جنائية مختلفة عن تلك المتبعة بخصوص البالغين تقوم على الإصلاح والتهذيب والإدماج وليس الردع أو العقاب.
وضمن هذا السياق، حرصت الأمم المتحدة على قيادة الجهود الرامية لخلق منظومة خاصة متكاملة في التعامل مع الأطفال الأحداث، وقامت ضمن هذا الإطار على صياغة وإصدار العديد من الاتفاقيات والقواعد والإجراءات المعيارية التي تتطلب من مختلف الدول المنضوية في الامم المتحدة الامتثال لها حتى يتسنى لجميع الدول التعامل مع الأحداث وفق منظومة قيمية متشابهة، تسهم في النهاية في خلق أجيال صحية سليمة، قادرة على العمل والاندماج في مجتمعاتها، والعمل مع المجتمعات الأخرى، وبالنتيجة اشتراك الجميع في الفعل الحضاري والإنساني العام.
ويمكن ملاحظة التدخلات الأممية بهذا الشأن في العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كالإعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر في العام 1948، والعهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية للعام 1966، واتفاقية حقوق الطفل لعام 1989، وغيرها العديد من المواثيق والصكوك الدولية الخاصة بحقوق الاطفال والأحداث، وهي بمجملها ترسم الإطار القانوني والسياسيات الخاصة بالتعامل مع الأطفال والأحداث، باعتبارهم الخزان البشري لكافة الأمم، يخرج منه العمال والصناع والجنود والمهنيون والحرفيون وغيرهم. ولهذا راعت هذه المنظومة الحالة البدنية والذهنية والنفسية للأطفال الأحداث، باعتبارهم غير مدركين تمام الإدراك لطبيعة الآمال التي يقومون بها، وبالتالي أقرّت بضرورة التعامل معهم في حالة الجنوح كضحايا للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشونها، أجبرتهم أو تدخلت العوامل الخارجية المحيطة في وقوعهم بشرك الجريمة أكثر من كونهم أشخاص احترفوا الإجرام عن قصد ونية وإدراك. ويتبع هذه المنظومة ضرورة توفير البنى البشرية اللازمة لإعمال هذه الفلسفة وتفعيل هذه المنظومة والذي يتمثل بتشكيل شرطة أحداث خاصة، وتوفير باحثين اجتماعيين ونفسيين مؤهلين، وتوفير أماكن خاصة لإيداع الأحداث، مناسبة تصميماً وسعة وتجهيزاً.
راعت التشريعات العراقية بصورة عامة الاتجاهات الحديثة في التعامل مع الأحداث، فقد تضمن قانون رعاية الأحداث لعام 1983 رؤية وفلسفة متطورة بخصوص الأحداث، يمكن ملاحظتها في مجالات كثيرة، وأهمها النص على تشكيل شرطة متخصصة وقضاء متخصص، والإحالة للبحث الاجتماعي، وإشراك العائلة في الإجراءات المتخذة بحق الحدث، والإيداع في أماكن خاص، ومراعاة المصلحة الفضلى للحدث، وإيجاد شكل من أشكال العقوبات البديلة والمتمثل بمراقبة السلوك، وغيره من المفاهيم التي تعتبر متطورة عما سواها من التشريعات المقارنة آنذاك.
ومع الإقرار بأنّ قانون رعاية الأحداث العراقي تمت صياغته بدقة وإحكام، وتضمن فلسفة عصرية متطورة راعت خصوصية الأحداث، وهدفت للإصلاح وليس للعقاب أو الردع. وبالرغم من أهمية ما ذكر، إلاً أنه لا يمكن أن ننكر حجم التطورات الواسعة التي طرأت على منظومة حقوق الإنسان بعد إصدار ذلك القانون، خاصة التطورات التي طرأت على حقوق الأطفال الأحداث وفق الاتفاقيات والمواثيق ذات العلاقة وخاصة اتفاقية حقوق الطفل، والتي تأسست على ضرورة مراعاة تشريعات وسياسات الدول لمبدأ المصلحة الفضلى للطفل، وكذلك ضرورة التركيز على العدالة التصالحية والإكثار من المصالحات والتسامح بين الأحداث وبين المجني عليهم ، وإشراك عائلاتهم والقيادات الاجتماعية في التسويات التي تجري بهذا الشأن، والتركيز على العقوبات البديلة عن التوقيف والحبس.
وهذه المفاهيم لم تتناولها التشريعات العراقية بالشكل المطلوب، مما أبقى على الكثير من الفجوات في النظام القائم، وبالتالي بقيت العديد من السلبيات لدى التعامل مع الأحداث، فما زال الأحداث عرضة لإساءة المعاملة خلال عملية القبض والتحقيق معهم، ويتم في احيان كثيرة نكران حقوقهم الدستورية الأساسية كالنكوص عن ابلاغ الحدث بالتهم الموجهة إليه وسبب القبض عليه، ويتم التقاعس عن تبليغ الأهل بالقبض على ذويهم الحدث، أو يجري التهاون في توفير محام أو السماح للمحام بحضور إجراءات التحقيق. كما يتضمن النظام الحالي بعض الفجوات التي تسمح للمحققين في اساءة التعامل مع الأحداث خاصة في مسألة الحصول على المعلومات بالإكراه، أو نقلهم وهم مقيدون بالأصفاد والأغلال، أو لا يتم احترام خصوصياتهم، وبالتالي يكونون عرضة لكشف هويتهم وبالتالي افتضاح أمرهم أثناء نقلهم في مرافق العدالة. كذلك لا تراعي الكثير من القرارات الخاصة بالتوقيف المصلحة الأفضل للأحداث، ويتم التوقيف في كثير من الأحيان على مخالفات بسيطة. كذلك، يعتبر نظام عدالة الأحداث ضعيف في مجال العقوبات البديلة التي شجعت عليها المواثيق الدولية وأخذت بها معظم التشريعات المقارنة، ومنها استبدال العقوبات بالتشجيع على التعلم والتدريب والخدمة الاجتماعية، وذلك تحت إشراف طواقم متعلمة ومتدربة في التعامل مع هذه الفئات. إنّ العراق، بمؤسساته وشعبه الذي نجح في إلحاق الهزيمة بأهل الشرّ المتربصين به من نواحٍ مختلفة، وتمكن من الحفاظ على وحدة أراضيه وشعوبه، قادر على السير في إعادة البناء والإعمار، ولكن هذا يجب ان يكون بالتوازي مع منظومة قانونية حقوقية شاملة، وفي مقدمتهم مراجعة نظام عدالة الأحداث، والمباشرة في سدّ الفجوات، والعمل على ردمها وصولاً نحو الانسجام مع المعايير الدولية الواردة في الاتفاقيات التي وقعت عليها جمهورية العراق، وبما يلبي الروحية العالية للحقوق والحريات التي تضمنها الدستور العراقي الدائم لعام 2005، والتزام العراق بهذه المنظومة ليس من قبيل الامتثال للالتزامات الدولية بقدر ما هو في الأساس مصلحة عراقية وأولوية وطنية، فالحماية من الانحراف وتقويم سلوك المنحرفين يعني إعادة الحياة لآلاف المنحرفين لجادة الصواب، ويجعل منهم مواطنين صالحين نافعين.