ما السبيل لتحقيق “حكم القانون”؟

أ.م. د.عبد الحسين شعبان

وفي الدول الديمقراطية يكون المسؤول الأول في الدولة ابتداءً من رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء وانتهاءً بشرطي أو جابي الضرائب يتحمّلون المسؤولية ذاتها عن الأعمال التي يقومون بها مثل أي مواطن آخر، الأمر الذي يصبح تنفيذ القانون ملزماً للجميع، لمن وضعه ولمن يقوم بتنفيذه والجميع مطالبون التقيد به، ولذلك نلاحظ حالات كثيرة يتم فيها متابعة المسؤولين في الدولة بصفتهم الشخصية ويمْثُل كثيرون منهم أمام القضاء لمحاسبتهم واتخاذ عقوبات بحقهم.

ويرتبط مفهوم حكم القانون وسيادة أحكامه بعدد من المفاهيم منها:

  1. عدم سن قوانين بأثر رجعي “لا عقوبة ولا جريمة إلاّ بنص”.
  2. افتراض البراءة “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”.
  3. العقوبة المضاعفة “لا يعاقب الإنسان إلّا مرة واحدة عن الجريمة المعينة التي ارتكبها” (مع السماح بإعادة المحاكمة في حال توفّر أدلّة جديدة).
  4. مبدأ المساواة القانونية (أي عدم التمييز بسبب الدين أو العرق أو اللون أو اللغة أو الأصل الاجتماعي). وحسب مونتيسكيو: القانون مثل الموت الذي لا يستثني أحداً.
  5. إخبار المتهم بالجريمة التي يتهم بها.
  6. أن تقوم بحبسه جهة قضائية.

ومبدأ حكم القانون لا يتعرّض إلى عدالة القانون ذاته، ولكن يُعنى بالمحافظة على النظام القانوني من خلال الامتثال لحكم القانون، وعكسه ستكون الفوضى، ولكن مبدأ حكم القانون يعتبر شرطاً من شروط الدولة الديمقراطية، وكان أرسطو أول من تحدث عن هذا المبدأ باعتباره من القانون الطبيعي.

وبرغم الاختلاف الفكري والسياسي بين الأنظمة السياسية، فإنها جميعها تتحدث عن مبدأ حكم القانون، وفي الدول الديمقراطية فإنه يشكّل وسيلة لفرض قيود على الحكومة ومنعها من التغوّل على المواطن أو الاستبداد في الحكم أو التعسف في إصدار الأحكام، في حين تستخدمه الدول الشمولية والدكتاتورية للتغوّل على المواطن بزعم حماية المجتمع.

وتميل الدول الشمولية إلى استخدام مبدأ حكم القانون بما يضمن إخضاع الدولة لمن بيدهم السلطة، وأحياناً تبتلع السلطة الدولة، وتخضعها لصالحها وتوظفها لمصلحتها بزعم الدفاع عن مصالح الأمة أو الشعب أو الكادحين أو مصلحة الثورة أو تحرير الأراضي أو إعلاء شأن الإسلام أو غير ذلك من ذرائع هدفها الزوغان من حكم القانون واستخدامه أداة لإملاء الإرادة على الآخرين.

وقد سارت جميع الأنظمة الشمولية في هذا الاتجاه دولياً: الفاشية، والاشتراكية السابقة، وإقليمياً دول ما نسميه بـ”التحرر الوطني” التي حكمت باسم القومية أو الدين أو مصالح الكادحين، مبررة ذلك بالصراع مع العدوّ والأخطار الخارجية ومهمات تثوير المجتمع وتغييره عبر الثورة على القوانين ومن خلالها، يتم تجاوز الواقع. وأياً كانت المبرّرات، فإن النتيجة كانت لغير صالح حكم القانون الذي لن تتقدّم الدول وتتحقق التنمية بمعناها الشامل والمستدام إلاّ من خلاله، وحتى لو كان القانون متخلفاً فينبغي العمل على تغييره بالوسائل السياسية والدستورية ومن خلال التراكم والتطوّر، مثلما يمكن أن يلعب الرأي العام وقواه الحيّة دوراً في ذلك.

وقد أكّدت جميع التجارب العالمية والإقليمية والعربية أن التغييرات الانقلابية التي حصلت ويتم فيها التجاوز على القانون سرعان ما عادت وانتكست، مؤخِّرة التطوّر الطبيعي التدريجي.

وفي الدول الديمقراطية: الشعب مصدر السلطات (بواسطة ممثليه)، في حين أن هدف القانون في الأنظمة الشمولية والدكتاتورية هو “مصلحة الشعب التي تمر عبر مصلحة الحاكم”. أما في الأنظمة الديمقراطية، فإن طاعة القانون، ليست في جميع الأحوال ناجمة عن الخوف من العقوبة، بل وفي الكثير من الأحيان من خلال القناعة، وعبر التراكم الحقوقي والثقافة الحقوقية والديمقراطية تنشأ ثقافة عامة في المجتمع تشجّع على احترام القانون وتزدري منتهكيه بما فيه المخالفات البسيطة لأنظمة المرور مثلاً أو لاختراق الدور عند الانتظار أمام دائرة أو مؤسسة أو في مطار، في حين أن الطاعة في الأنظمة الشمولية تأتي عن طريق الخوف أو الردع أو العقوبات الغليظة واللاقانونية أحياناً، أي أنها طاعة إجبارية وإكراهية في الغالب.

القانون فوق الجميع” في الأنظمة الديمقراطية وفي نقيضها الأنظمة الشمولية “الحاكم فوق القانون“، والحاكم هو الذي يسنّ القانون من خلال قرارات فوقية، بحجة “حكم الضرورة” و”الأوضاع الاستثنائية” وأحياناً تبرير “المحظورات” بحجّة “الضرورات”، أو من خلال مجالس تشريعية مزيفة أو مزوّرة أو بانتخابات شكلية، وحتى لو تضمّنت شكلياً على القيم الديمقراطية، فإنها تعطّل تحت ذرائع مختلفة، في حين أن القيم الديمقراطية يتم تعميقها برقابة الرأي العام في الأنظمة الديمقراطية (إعلام، مؤسسات مجتمع مدني، منظمات حقوقية..).

 وأساس القوانين في الأنظمة الديمقراطية: الحريّات العامة والخاصة، ولا سيّما حريّة التعبير والحق في تأسيس الأحزاب والجمعيات والنقابات وحق الاعتقاد ومبادىء المساواة والشراكة والمشاركة والمساءلة والشفافية، في حين أن بعض القوانين تعطّل أو تسوّف تحت ذرائع مختلفة، فتارة بزعم مصالح البلد العليا، وأخرى بحجة التحدي الخارجي وثالثة التغيير بالقوة أو بالثورة للقضاء على أعدائها حتى لو تم التجاوز على القانون وانتهاك حقوق الإنسان، وكل ذلك يتم تبريره بحجج وشعارات كبرى لا تصمد أمام الواقع الموضوعي.

وإذا كان القانون هو مجموعة القواعد القانونية السلوكية التي تسنّها سلطة لها حق التشريع لتنظيم علاقة الأفراد بالدولة وبين بعضهم البعض، وتكفل تطبيقها سلطة تنفيذية (حكومة)، ويفرض الجزاء على من يخالفها أو يمتنع عن تنفيذها، قضاء مستقل، فإن الدعوة الى حكم القانون تعني حصراً علاقة الفرد ، المواطن بسلطة بلده، وعلاقة السلطة  به، وهو ما يمكن أن نطلق عليه صفة المواطنة بمعناها الحديث، المكفول من جانب سيادة القانون، لاسيما بعلو أحكامه باعتباره خصيصة من خصائص الدولة العصرية.

وحكم القانون هو شكل من أشكال ادارة الحكم، خصوصاً إذا اعتمد على مبدأ المساواة وعدم التمييز، باخضاع الجميع بمن فيهم الحكام وجميع المؤسسات والهيئات العامة والخاصة لحكم القانون والمساءلة والمساواة أمامه بهدف تحقيق العدالة وانصاف المظلومين عبر قضاء نزيه وفعّال ومستقل، بحيث يمكن حماية الانسان وحقوقه، فضلاً عن مشاركة الجميع وحقهم في صنع القرار وتوّلي الوظائف العامة دون تمييز.

ولكن من الذي يحدد حكم القانون؟ هل هي سلطة الهية أو موروثة أو انقلابية بحجة دينية أو قومية أو طبقية؟ وكل ذلك كان سبباً من أسباب تعطيل حكم القانون في أحيان كثيرة، باخضاعه لمصالح خاصة وضيقة، وتحت ذرائع أو مسوّغات غالباً ما تكون “غير قانونية”!

أما في الدولة العصرية فتوجد دساتير تحدد سيادة القانون من خلال اعتماد مبادئ قانونية وتوجهات دستورية، لرسم الحدود الفاصلة بين صلاحيات سلطات الدولة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتنظيم التعاون فيما بينها بما يؤدي الى تحقيق العدالة من خلال المساءلة والمسؤولية في تطبيق القانون.

        ويعتبر العدل من أهم أركان حكم القانون لاسيما بالمساواة وبعدم التمييز بسبب العنصر أو اللون او الجنس أو الدين أو اللغة أو المنشأ الاجتماعي او الاتجاه السياسي، الأمر الذي يقتضي وضع مسافة واحدة بين الأفراد والقانون وسلطة الدولة، بحيث تضمن الحقوق المتساوية للجميع.

        وحكم القانون يقتضي توفّر عنصر الارادة الشعبية للتعبير عنه وذلك عبر اجراء انتخابات دورية وديمقراطية حرة ونزيهة، لاختيار الحكام واستبدالهم نزولاً عند رأي الشعب صاحب السلطة والسيادة، الأمر الذي يستوجب الامتثال لارادته، خصوصاً بتوسيع دائرة المشاركة، ولاسيما من جانب مؤسسات المجتمع المدني، التي تعتبر شريكاً ورقيباً وقوة اقتراح يمكن ان تسهم في تعزيز حكم القانون. ولعل هذا هو الركن الثاني لحكم القانون.

اما الركن الثالث فيتعلق بخضوع الحكام مثلهم مثل غيرهم لمبدأ حكم القانون، الذي يقيّد سلطتهم ويجعل المواطنين متساوين، لاسيما أمام القانون، الذي تسنّه سلطة يفترض فيها التمثيل الشعبي عبر الانتخابات الحرة النزيهة، والتي يتوّلى السهر على تنفيذ احكام القانون قضاء مستقل ونزيه ومحايد، بحيث يصون الشرعية ويؤمن مستلزمات تحقيق العدالة.

وهكذا فإن دولة القانون لا تقوم الاّ في ظل دولة تنبثق فيها السلطة من حكم القانون، وتعود لتنضبط بالقانون الذي هو تعبير عن ارادة المواطنين، الأفراد، الأحرار، المتساوين ويكون القانون حامياً لحقوقهم، وهو فوقهم مثلما هو فوق الحكام!

ان حكم القانون هو وحده الذي يؤمن حماية متساوية لحقوق الانسان التي لا يمكن ان تكون مكفولة ومضمونة، الاّ في حمى القانون، حتى وإن تضمنتها معاهدات واتفاقيات دولية ووردت في نصوص دستورية، وهكذا يشكّل احترام هذه الحقوق معياراً أساسياً للحكم الصالح وتأكيداً على دولة القانون التي تتولى حماية حقوق الانسان كافة.

        وقد وصل الفقه الدولي المعاصر الى تأكيد عدد من المعايير والمؤشرات لحكم القانون، باعتبار الحكم الصالح بما فيه حكم القانون مدخلاً مهماً لتحقيق التنمية البشرية، وقد عبر الامين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان عن ذلك، حين قال ” الحكم الصالح هو الوسيلة الأهم لتحقيق التنمية والقضاء على الفقر”.

        وحسب تقارير الامم المتحدة، فإن حكم القانون هو أحد المقاييس التي يقاس بها مدى اقتراب الحكم من الصلاح أو عدمه، خصوصاً وهو ضمانة لتحقيق الشفافية والمساءلة، إضافة الى المشاركة الفاعلة، لاسيما لمؤسسات المجتمع المدني.

ان حكم القانون هو الضمانة الحقيقية للأفراد والمجتمع في حماية حقوقهم وحرياتهم، على أساس المساواة وعدم التمييز، فضلاً عن ذلك فهو وسيلة رادعة ضد الفساد الاداري والمالي والسياسي، وضد سوء الاستخدام او التبديد للمال العام.

ولعل حكم القانون يعتبر الاساس في الأمن الاجتماعي والتطامن السياسي والتعايش المجتمعي، لأنه يشكل أحد مقوّمات الأمن الانساني، ومن دون حكم القانون، لا يمكن تأمين احترام حقوق الانسان ولا محاسبة الحكومة أو مراقبتها، ولا اجراء الانتخابات الحرة النزيهة، ولا تطوير المجتمع المدني ولا احترام دور الاعلام في التنمية وتعزيز المشاركة، وهذه المبادئ كانت قد ذهبت اليها الوثيقة المفتاحية التي عرضتها الجهة المنظمة لندوة عمان المهمة حول حكم القانون.

وإذا كانت الهوة سحيقة بين التطور الدولي وبين مجتمعاتنا بشأن مسألة حكم القانون، فإن القضية المركزية التي ستظل تشغل العالمين العربي والاسلامي بشكل خاص والعالمثالثي بشكل عام، هي كيف السبيل لانفاذ حكم القانون، خصوصاً وأن القناعة بدأت تتعزز بأننا لا يمكن الخروج من غلواء التخلف والتعصب وعدم المساواة واللحاق بركب العالم المتقدم، دون تحقيق حكم القانون، الأمر الذي يتطلب أولاً وقبل كل شيء وضع القانون فوق الجميع، وهذا يقتضي رصداً دقيقاً لتطوير منظومة القوانين والمؤسسات والممارسات في العالم العربي بما تستجيب اليه ظروف وحاجات المجتمعات العربية ودرجة تطورها، والسعي لمواءمة ذلك مع المعايير الدولية بما يؤدي الى تفاعل الخصوصية الثقافية والقومية مع التطور الكوني.

        وإذا كانت قضية تأمين حكم القانون في الدول العربية مسألة أساسية، فهي تقتضي بداية تحقيق اصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وقانونية من شأنها أن تزيد من فاعلية مشاركة مؤسسات المجتمع المدني، فلا يمكن تأمين حكم القانون دون تعاون طرفي المعادلة (الحكومات والمجتمعات)، بما يساعد في تحقيق التنمية البشرية بجميع أركانها وبذلك تتحقق دولة القانون والحق.

Comments (0)
Add Comment